وداعاً لزمن النزوح واهلاً بلملمة الشتات في ارضِ الامل
سعد بابير
في اقصى شِمال العراق، تمكتُ أسرة ايزيدية في خيمة مهترئة مضت على اقامتها ست سنوات، وهي تهتز مع كل هبة رياح وتحترق مع لهيب الصيف الحارق، دون ان تكون هناك مساعيٍ تضمن لهم الرحيل الى ارض الامل الذي بات يعرف بانه ارض “الابادة الجماعية” التي اصبحتْ ندبة في نفوس جميع من ذاقوا مرارتها، سيما ان ذلك الارض اصبح محطة اهتمام الجميع بعد ان تخلوا عنها على نحو غفلة من الزمن مع تقدم حشود ما يسمى بـ(جند الخلافة الاسلامية) ، تاركين خلفهم اصوات العصافير، هلاهل النساء، احلام الاطفال والحدائق في فناء المنازل الطينية.
قال احدهم : أ تظن ان هذه الخيمة هي الوحيدة؟ انظر من حولك، اسأل عن بقية الخيم، فهناك المزيد بل الالاف منهم، ففي كل واحدة منها اطفال ولدوا وتقدموا في السن، في كل واحدة منها اطفال تيتموا واصبحوا معيلين لانفسهم ولبقايا اسرهم؟ ثم نظر باحتقرار شديد وامسى يقول لماذا لا نقول العكس؟. تحت سقف هذه الخيم هناك طلبة تخرجوا وحصلوا على مراتب متقدمة، اخرون تعلموا فن الرسم والغناء والنحت، الخياطة وقراءة الكتب وتعلموا كيف يتطوعون في خدمة من يحتاجهم، وهناك اخرون حصلوا على وظائف لابأس بها وبهذا اصبحوا مصدر رزق لاسرهم ولجيرانهم ايضا. يبدو انه كان يفكر باجابية كبيرة عكس جميع الذين التقينا بهم.
مع اقتراب الذكرى السادسة على ارتكاب الابادة الجماعية، تستعد العديد من الاسر الايزيدية الى طَي صفحة النزوح وحط الرحال نحو “ارض الامل” بعد الشعور باليأس من الحياة البائسة في المخيمات رغم تأقلمهم مع الاوضاع التي مضت عليها اكثر من نصف عقد. الذين نسجوا الخطط قالوا بان سنجار (شنگال) سوف تخلوا من الايزيدين، والمخيمات ستصبح تجمعات دائمة وبديلة، يبدو انها كانت مفاجئة مدوية بالنسبة لهم، لان الايزيديون لم يتخلوا عن جبلهم في ايام المحن وفِي هذه الايام اصبحوا يتخلون عن الخيم، يبدو ان ذلك لم يكن في الحسبان. هل تتخلى الذئاب عن اوكارها بهذه السهولة المعتادة؟!.
على طول الطرق الرابطة بين مدينة سنجار ومدن دهوك ونينوى، ترى تجمعات الايزيديين وهم يتوجهون نحو ارض الامل بدون ان تراودهم الامل بان القوى السياسة في بلدهم سوف يخرجون من قوقعة مصالحهم وسوف يتوجهون نحو تحسن أوضاعهم، بعد مذلة المخيمات، والقتل الجماعي، حياة السبي، تدمير البنى التحتية والتهجير القسري لمئات الالاف.
يقول احدهم: يبدو ان الساسة في بلدنا تجردو من الانسانية واصبحوا يرتدون ثوب العار في كل مناسبة، اننا فقدنا الامل بانهم سوف يفعلون شيئا، ويأسنا من المطالبات المتكررة وكأننا “نطلب الحليبَ من الطيور”. لكن لازلنا نمتلك الارادة، وهذه الارادة سوف تكون المسار الذي يرسم طريقنا نحو اعادة الحياة الى ارضنا وبلداتنا، هذه الارادة بامكانها ان تُمسح مخلفات الحرب، وترسم مكانها لوحات مستقبلية جميلة. اعتدنا على مواجهة ومجابهة الصعوبات منذ ازمان بعيدة، اذا لم نقم نحن ببناء حياتنا ومستقبلنا فلا احد سوف يسعى الى ذلك.
نظرة التفائل في عينه يدعو الى الطمأنينة، لكن الحذر واجب، العودة الى الديار شيء لابد منه لكن يتحتم علينا العمل لمنع تكرار سيناريو ما قبل ارتكاب الابادة الجماعية، في كثير من الاحيان الخراف تحاول ان تحمي نفسها من الذئاب لكن في نهاية المطاف تصبح فريسة سهلة ووجبة شهية لاشباع جوع الراعي، وهذا ما لا نتمناه، الثقة المفرطة باية جهة كانت سوف تضعنا في متاهات وفظائع اخرى.
في مناسبات عديدة عندما يتم توجيه السؤال لي حول بيان الرائي بالعودة الى الديار، اقول المثل الدراج ” لا يحك جلدك مثل ظفرك، فتول انت جميع أمرك”، انني اؤمن بالحرية الشخصية للفرد وان قرار العودة هو قرار شخصي بحث يعتمد على ظروف الشخص وأسرته، لكن شخصيا اتمنى ان يعود الحياة الى ” ارض الامل” مجددا، وان يتم بناء ما تم تدميره، اتمنى ان ارى بناء الانسان في سنجار بشكل يختلف عن قبل الابادة بعيدا عن عصر العبودية والاذلال ، اتمنى رؤية بناء الجامعات ومراكز الابحاث، المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية، بناء السدود لخزن الماء وتوليد الطاقة، اتمنى رؤية الكثير من اشجار التين والسماق ، مزارع العنب، طائر القبج، شموخ الجبل الذي يأبى ان يرضخ للغزاة في كل ابادة .