في قلب جبال سنجار، حيث تعاني الأرض من آثار الجفاف والتدهور البيئي، انطلقت مُبادرة تحمل عنوان “لنجعل من سنجار جنة خضراء”،تهدف إلى زراعة مليون شجرة مُثمرة على مدى عشر سنوات، لإعادة الحياة إلى الأراضي المُتضررة جراء التغيرات المناخية والنزاعات التى شهدتها في العقد الماضي،وبدعم المتطوعين من أبناء المنطقة، تسعى الجهود المُبذولة لإنعاش الاقتصاد المحلي وفتح آفاق جديدة للمزارعين، مما يمهد الطريق نحو مُستقبل أكثر استدامة وازدهاراً.
“هذا الجبل هو بيتي وموطني”
تقول رنا بلو، 25 عامًا، من خانصور”عندما طرح الدكتور ميرزا دناي فكرة المبادرة، كنت من أوائل المؤيدين والداعمين لها ولاحتياجاتها”.
تصف اللحظات الأولى التي الهمتها للمُشاركة “بعد عودتي إلى سنجار، ذهبت إلى جبلنا ووقفت في أعاليه، ونظرت إلى المكان الذي يكاد التصحر يلتهمه، قلت لنفسي: هذا الجبل هو بيتي وموطني، ومن ذا الذي يترك بيته يحترق أمام عينيه؟”.
وفقاً للإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة العراقية، تتعرض أكثر من 53% من مساحة العراق لخطر التصحر، مما يدفع آلاف الأشخاص إلى هجر مناطقهم سنوياً.
تضيف رنا قائلة: “تسببت أحداث عام 2014 بأضرار جسيمة للبساتين، مما أثر سلباً على الإنتاجالزراعي في المنطقة وهدد استدامته، ودفع الناسإلى هجر أراضيهم”
بعد مُشاهدتها للدمار،قررت بلو أن تلتزم بالعمل في أي مُبادرة تهدف إلى زيادة المساحات الخضراء، مؤكدة حرصها على خدمة مُجتمعها والمُساهمة في حماية بيئتها.
التحديات البيئية في سنجار
ترى رنا أن التدهور البيئي في سنجار يعود إلى عوامل عدة، أبرزها التغيرات المناخية المُتزايدة منذ عام 2003، نتيجة قطع أكثر من مليون شجرة من غاباتها بسبب الإهمال الحكومي في فرض عقوبات على من يُلحق الضرر بالبيئة.
حسب إحصائيات وتحذيرات الأمم المتحدة، يحتل العراق المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية. تشمل هذه التأثيرات مخاطر شح المياه، الجفاف، ارتفاع درجات الحرارة، التلوث، بالإضافة إلى العديد من الكوارث الطبيعية الأخرى.
في 8 أغسطس، أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة أن شهر يوليو 2023 كان الأكثر حرارة خلال الـ120 ألف سنة الماضية.
في العراق، تحديدًا في قضاء خانقين بمحافظة ديالى، بلغت درجات الحرارة 52 درجة مئوية، بينما سجلت في سنجار 49 درجة مئوية.
فريق العمل ومراحل المشروع
يضم الفريق التطوعيحوالي 50 شابًا وشابة يعملون وفق أوقات فراغهم، بينما يلتزم 6 منهم بالعمل اليومي من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، وتضيف حتى المتطوعين الذين يعملون بشكل دائم يمكنهم الانضمام إلى النشاطات حسب جدولهم الزمني ،وغير مُلزمين بالتواجد الدائم.
توضح رنا أن هؤلاء المُتطوعين هم محور الحملة وقلبها النابض، حيث يعملون بجد للحفاظ على الإرث الزراعي للمنطقة من خلال زراعتها بالاشجار المُثمرة.
مراحل تنفيذ المشروع
تسعى مُبادرة “لنجعل من سنجار جنة خضراء” تحقيق مجموعة من الأهداف خلال عدة مراحل أساسية:ـ
جمع وزراعة الأقلام: في المرحلة الأولى، قام الفريق التطوعي بجمع أقلام التين من فصائل معينة تنمو في جبال سنجار لا تحتاج إلى السقي، بالإضافة إلى جمع أقلام لأشجار مثمرة أخرى مثل الزيتون.
تحضير التربة: في المرحلة الثانية، تم خلط التربة بالسماد وتجهيزها للزراعة في مشاتل بيت التعايش في سنوني،حيث يُسهم ذلك في تحسين جودة التربة وجعلها مُلائمة لنمو الأشجار.
“هدفنا هو إحياء الثروة الزراعية في سنجار”
تؤكد رنا أن الهدف الأساسي من زراعة مليون شجرة هو إعادة إحياء الثروة الزراعية في سنجار التي كانت تشتهر سابقًا بخصوبة تربتها وغناها بالزراعة،وتقول: “الزراعة جزء من تراثنا ومهنة آبائنا وأجدادنا، كما أن هذه المُبادرة ستُسهم في مكافحة التصحر الذي يهدد المدينة”.
قبل أحداث 2014 كان يعيش في سنجار 340 ألف مواطن من المكونات الدينية والعرقية المختلفة،مثلت الزراعة أحد أهم مصادر العيش الرئيسية للسكان، لكن الحرب ألقت بظلالها على هذا القطاع.
وتضيف بلو “أن الوضع البيئي الراهن في سنجار يتطلب حلولًا عاجلة حيث يهدد الجفاف حوالي 6000 شجرة في قرية طيرف شمال جبل سنجار، وقد تتفاقم المشكلة لتشمل قرى أخرى ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية”
بحسب إحصائية غير رسمية صادرة عن شعبة الزراعة في سنجار، جفّت حوالي 4000 شجرة تين أو ذبلت ثمارها خلال عام 2023 نتيجة تداعيات التغير المناخي وآثار الحرب.
تقول رنا”حتى الآن، تم زراعة 25 ألف شجرة مُثمرة من التين والزيتون في مشاتل بيت التعايش في ناحية سنوني التابعة لسنجار“
الجدول الزمني للحملة حتى عام 2033
بدأت المُبادرة في 1 أكتوبر 2023، ومن المُقرر أن تستمر لمدة 10 سنوات حتى 1 أكتوبر 2033. تهدف المبادرة إلى تحقيق أهداف طويلة الأمد تتضمن تحسين الظروف البيئية والاجتماعية في المنطقة.
في المرحلة المُقبلة، سيجري تدريب للمتطوعين استعدادًا للموسم الزراعي القادم،بينما يتولى مُهندس زراعي في الوقت الراهن الإشراف على عملية الزراعة وتوجيه المُتطوعين حول أفضل الطرق لزراعة الأشجار.
وتوضح رنا أن الأشجار المزروعة في إطار المُبادرةتُعتنى بها في مشاتل مُخصصة حتى تنمو بشكل كامل وتصبح جاهزة للغرس.
بعد ذلك، سيتم تخصيص رابط إلكتروني يتيح للمواطنين المتضررين تقديم طلباتهم للحصول على الشجيرات، سيتم فتح الرابط بشكل دوري وفقاً لموسم الزراعة ومدى ملاءمة كل صنف. بعد تقديم الطلبات عبر الاستمارة الإلكترونية، يتم تقييمها وتحديد عدد الشجيرات التي ستوزع على كل فرد لزرعها.
عملية اختيار الأشجار المُلائمة لبيئة المدينة
اختيار شجرتي التين والزيتون جاء لكونهما من الأشجار المُثمرة التي توفر دخلاً لأهل المنطقة وتتحمل الظروف المناخية الصعبة.
يبدأ نضج التين من أواخر يوليو حتى نهاية أكتوبر في درجات حرارة تتراوح بين 29 و38 درجة مئوية، بينما يبدأ موسم قطف الزيتون من أكتوبر إلى ديسمبر في درجات حرارة تتراوح بين 20 و30 درجة مئوية، وكلاهما يتحمل درجات حرارة تصل لأكثر من 40 درجة مئوية.
لطالما اشتهرت مدينة سنجار غربي مُحافظة نينوى بزراعة أفضل أنواع التين، الذي يتميز بمذاقه الفريد وقيمته الغذائية العالية، بالإضافة إلى الزيتون الذي يُعرف بحجمه الكبير وجودته المُمتازة في استخراج افضل انواع الزيوت. هذه الخصائص جعلت من سنجار مركزًا رئيسيًا لزراعة هذه المحاصيل التي تشكل جزءًا أساسيًا من تراثها الزراعي.
إلى جانب التين والزيتون، تشتهر المنطقة بإنتاج العنب والعسل والتبغ والعديد من المحاصيل الأخرى.
الدعم اللوجستي للمُبادرة
تؤكد رنا قائلة: “نحتاج إلى دعم لوجستي لتأمين المواد الأساسية اللازمة للمشروع، إلى جانب تدريب المُتطوعين لضمان استمرارية المبادرة ونجاحها على المدى الطويل”.
من جانبه، يشير المُتطوع بيازيد إلى التحديات التي تعترضهم، موضحًا: “نواجه صعوبة رئيسية تتعلق بنقص وسائل النقل، إذ لا تتوفر سيارات خاصة بالمتطوعين لتسهيل الانتقال من مكان الإقامة إلى مواقع العمل”
دكتور ميرزا وبيت التعايش
أعلن الدكتور ميرزا دناي، مدير بيت التعايش في سنوني وصاحب فكرة “لنجعل من سنجار جنة خضراء”، عن إطلاق المشروع في 1 أكتوبر 2023، حيث تتضمن المرحلة الاولى من المشروع زراعة 25 ألف شجرة، كخطوة أولى نحو استعادة البيئة الطبيعية للمنطقة وتعزيز الاستدامة.
في المرحلة الأولى، يُركز المشروع على تكثير شتلات التين والزيتون في حديقة بيت التعايش، حيث تُعنى هذه الشتلات بعناية جيدة حتى تصبح جاهزة للغرس في بساتين المزارعين.
ويوضح دناي أن هدف المُبادرة هو دعم زراعة التين والزيتون لتكون مصدر رزق حيوي لسكان المنطقة الذين عانوا من النزوح وبدوا تدريجيًا بالعودة إلى قراهم. ويضيف: “نطمح لزراعة مليون شجرة لتعويض الأشجار التي فقدناها على مر السنين، وسنقوم بتوزيع الأشجار مجاناً على المزارعين لاسيما المُتضررين من الجفاف”
وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، كانت الزراعة تشكل مصدر الدخل الأساسي لحوالي 85% من سكان سنجار قبل حرب ٢٠١٤.
يؤكد ميرزا، الطبيب والناشط الإنساني الحاصل على جائزة أورورا الإنسانية عام 2019، أن المُبادرة تهدف إلى تعزيز زراعة الأشجار المُثمرة، بما يسهم في تحقيق استدامة زراعية للمنطقة التي عانت كثيراً من التدهور البيئي والنزوح. وقد تم تكريم دناي خلال حفل أقيم في العاصمة الأرمينية يريفان، تقديراً لجهوده المميزة في تقديم الدعم والمساعدة للنازحين.
أشار دناي أن هذه الحملة ليست مجرد مشروع قصير الأمد، بل هي خطوة في مسار طويل يهدف إلى تمكين سكان المنطقة من استعادة مصادر رزقهم والتكيف مع تأثيرات تغير المناخ، بالإضافة إلى المساهمة في حماية البيئة من التلوث.
وفقاً لإحصائيات وزارة البيئة، لا يزال قضاء سنجار ملوثاً بالمخلفات الحربية. في البداية، كانت مساحة التلوث تتجاوز 75 كيلومتر مربع، بينما تتواصل حالياً عمليات إزالة هذه المخلفات.
بيت التعايش، الذي أطلق المُبادرة، هو مركز ثقافي واجتماعي غير حكومي يقع في ناحية سنوني بسنجار، وقد أُنشئ في يوليو 2022 بدعم مالي من الدكتور ميرزا دناي. المركز، الذي يمتد على مساحة 1200 متر مربع ويتألف من ثلاثة طوابق، يسعى إلى تعزيز التنوع الثقافي والتعايش السلمي في المنطقة، ويعتبر الحملة البيئية جزءًا من جهوده في دعم المجتمع المحلي.
“أشعر بالفخر والسعادة “
فايزة عمر، 23 عامًا من سنوني،إحدى المتطوعات ضمن مُبادرة زراعة مليون شجرة في سنجار. تعبر عن فخرها بأحياء إرث مدينتها تقول: “أشعر بالسعادة عندما ارى مدينتي تزهو بالخضار كما كانت في السابق، في كل مرة أجمع الأقلام وأحضرها إلى بيت التعايش، وأقوم بملء أكياس التربة وخلطها مع السماد، وأعتني بالنباتات حتى تصبح أشجاراً، أشعر بأنني أسهم في بناء مستقبل أخضر لسنجار”
” الزراعة شغف متجذر”
أما بيازيد خالد، 25 عامًا من خانصور، فقد نشأ على حب الزراعة منذ طفولته، حيث كان يساعد والده في مزرعة التبغ العائلية.اليوم، يساهم بحماس في حملة التشجير، ويقول: “أحضرت حوالي 1000-1200 قلم من شجر التين والزيتون من بستان عائلتي مجاناً لأساهم في المُبادرة” ويضيف بأسى: “عندما أتجول مع أصدقائي في الجبال وأرى مساحات قاحلة بعدما كانت خضراء، أشعر وكأن حملاً ثقيلاً يُجثم على صدري لهذا، أتمنى أن تساهم هذه الحملة في إعادة الحياة والجمال لسنجار”.
“أزرع ولا تقطع”
عمر خلف حسين، 45 عامًا من ناحية سنوني، أحد المستفيدين من المُبادرة،يقول “سمعت عن المباردة من بعض أصدقائي،وتوجهت على الفور إلى بيت التعايش للمشاركة وتقديم المساعدة، أملك أرضًا تتسع لـ 2000 شجرة، وهذه الحملة ستشكل مصدر دخل لنا، وتساعدني على استعادة زراعة أرضي”.
ويشير عمر إلى التحولات التي طرأت على حياته منذ عام 2014، عندما كان يزرع الطماطم والبطيخ في بستانه، ويقول : “ارضي تدهورت مع مرور الوقت، ولم يعد بإمكاني زراعتها كما في السابق بسبب الظروف المناخية ” وأوضح أن سنجار بأكملهابحاجة لمثل هذه المُبادرات التي تعيد إليها جمالها الطبيعي وتساعد على تخفيف آثار التغيرات البيئية والنزوح.
ويختتم عمر حديثه بعبارة: “ازرع ولا تقطع، فالأشجار والطبيعة هي زينة الجبال”.
محصول التين وأثر المُبادرة
بركات عيسى، مدير زراعة ناحية الشمال، يُثني على الحملة، ويعتبرها خطوة مهمة لإحياء الثروة الزراعية في المنطقة.
ويشير إلى أن إنتاج محصول التين في سنجار قد انخفض بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب الجفاف، حيث بلغ الإنتاج 75 طنًا فقط في عام 2021 مقارنة بـ150 طنًا في عام 2019. يعرب عيسى عن أمله في أن تسهم الحملة في رفع إنتاجية محصول التين مرة أخرى.
“هذه الأرض هي إرثنا وإرث أجيالنا القادمة، ومن مسؤوليتنا أن نحافظ عليها، نزرع الشجر و الأمل ونؤسس لمستقبل أفضل، حيث تظل الأرض خصبة ومزدهرة للأجيال القادمة، لنعمل معاً اليوم لتأمين غدٍ أخضر ومثمر”،هكذا اختتمت رنا بلو حديثها.
(تم إنتاج هذه المادة بالتعاون مع جمعية التحرير للتنميةTAD )