حكايات من شنكال (قاسم حسن بيسو والمحاضرة الأولى في جامعة الموصل) : مراد سليمان علو
تتمايل الشقائق في (باب شلو)، وتتراقص الفراشات البرتقالية على طول جدول (السكينية) وعلى بئر (بزن) و (مندكا)، وما أن تبدأ الفتيات بالتهيؤ لجلب القربة الباردة الأولى للشرب وعمل مخيض اللبن حتى تخرج عرائس الجان من كهوفها، ومع طلوع الشمس وأداء دعاء الشروق نلتفت جميعا ونلّوح معا ل (شرفدين) وهو قادم ليحكي لنا قصص الشهداء وحكايا الهجرة قبل أن يملأ العراق عدلا.
إن أحرقوكِ اليوم يا (كرعزير) فقد حرقوا بابل قبلكِ وتحوّل برجها ونخيلها إلى رماد.
إن كسروا جناحك اليوم يا (سيباى) فقد حطّموا بورسيبا قبلك وحوّلوا معبد أيزيدا إلى خرائب.
وإن أرادوا القضاء علينا فهذه هي المرّة الثالثة والسبعون.
حاولوا إبادتنا وكان لهم عار المحاولة، ونحاول البقاء ولنا شرف المحاولة.
في ضجّة العصر هبط موتهم المصنوع بأيديهم الوسخة على قلب (كرعزير) وجناح (سيباى).
وفي سويداء قلب (كرعزير) كان صديقي ـ صديق الجميع ـ (قاسم حسن بيسو) سادن خيمة الوفاء في دنيا الصداقة، وحواليه حلقة مكوّنة من ثلاثمائة وأحد عشر ضحية. صغار وكبار، أطفال ونساء، شباب وشيوخ، عجائز وكهول. وهم يشعلون البخور للآلهة في رحلتهم الأخيرة من (كرعزير) و (سيباى) إلى بوابة السماء السابعة.
صنع (قاسم) من ضحكته مراكبا للعبور، ومن بسمته أجنحة مخملية لطيران مستمر فوق عشاق السهر. وقام بتلوين دروب أكواخنا الطينية، من مكتبه في بلدية (كرعزير) فأصبح يوم الرابع عشر من آب نصبا جديدا للحرّية وللشهداء ولقصصنا.
في أيام جامعة الموصل كان ينظر (قاسم) إلى ساعته (الأورينت) ويقول ضاحكا تأخرنا كالعادة عن المحاضرة الأولى، وتتحوّل المحاضرات إلى سرب سنونو يغادر إلى (لالش) كلّ صباح؛ لقراءة شفاه (البابا جاويش) وهو يتلو دعاء الفجر، ويروي قصّة حبّ لم تنتهي.
باقة زهور جبلية مخبئة في المرايا الفضية نقطفها لاحقا في الرابع عشر من آب 2007 ونلصقها على الأبواب كلّ عام، فهل دفنوك بساعتك يا صديقي لتتأكد من مواعيد محاضراتنا أم أن عقاربها تناثرت لتشير إلى المكان قبل الزمان كما قلوبنا التي اضعناها في حقائب السفر.
بدأ مسلسل القتل والتفجير والتفخيخ ضد اللون الأبيض، وكأن مام (داود الداود) والشيخ (خدرى) هما من قتلا الملك فيصل الثاني وأعلنا جمهورية أيزيدخان، نعم، هكذا أصبح الحقد علينا في ظل ديمقراطية بساطيل بول بريمر المضحكة.
يا صديقي إني أحلّك من نذور الصداقة مثلما تخلت الدموع عن أعيننا وقت وداعك، وأغفر لك قسم اللقاء في المواعيد المؤجلة لنا، لأن اللقاء سيكون في نفس الموعد حسب توقيتك، وفي (فلكة) 14 آب لإلقاء القصائد، وإن غاب بعضنا فلا تحمّل ديوان المتنبي مسؤولية الغياب، وأسأل المسؤول الغبي الشبيه بذنب علقة الذي منع إلقاء القصائد باللغة العربية وكأن اللغة هي التي فجرّت قرانا. ولكن لا تقلق سنلتقي في مكان آخر وفي زمان ثان، وربمّا في حياة أخرى.
ليس عيبا أن يكون تعليمنا عربيا وبالتالي نتعود الكتابة بها ونتقن الإلقاء فتاريخ البلاد وطبيعة الحكم كان هكذا منذ تأسيس المملكة العراقية في 1920 ولكن العيب والخزي والعار على شرف وشارب ذلك المسؤول الحزبي الذي منع إلقاء القصائد باللغة العربية.
كتابة القصائد بهذه اللغة لم تشفع لي وقت التفجير فقد خسرت بدوري أصدقاء وأقاربا ومنهم أولاد ابن شقيقتي الثلاثة.
هذا المسؤول اللامسؤول لا يعلم بأن زمن الوصاية أنتهى وتبخر في زمن العولمة والأنترنت والتواصل الاجتماعي بألف طريقة وطريقة.
قدرنا أن نعيش لنرى نبوءات الغجر تتحقق في مجتمعنا، ونصاب بحمى الاغتراب، ثم نترك قبور احبابنا للغربان.
لا تهتم بثرثرتي يا صديقي فدهشة طفل هي نظرات عينيك وكلمات قصيدة لم تكتمل وألحان عمر تقطّعت أوتاره في بداية العزف. حلم عاشقة قيرانية بالذوبان في سمرة خدّيك وتصعد روح العاشقة إلى الغيوم وترضعها بدموعها الزلال وترقص الغيوم ثم تبكي مطرا مدرارا فقد حان وقت البكاء، ولا أدري من سيبدأ ب (لافز) وينتهي ب (غريبو) صباح يوم العيد قرب قبرك.
لا بأس صديقي سر مع قوافل الشهداء على غير هدى، فلن تحتاج لمأمور يرافق جثتك إلى البيت، أيام الحرب مضت وها هي أيام الغدر تقبل علينا في بيوتنا، وبعد الوصول حال انتهاء المحاضرة الأخيرة لا تقلق بشأن وجبة الغداء فسيطبخ لنا العزيز (عيدو خلف ملكو) الغداء كالعادة وما عليك إلا أن تدعو الجميع إلى الوليمة وقل لهم لن تجوعوا بعد اليوم فصديقي هو الطباخ.
في عطائك الجارف لمعنى الإنسان الجديد ينحني لك الجبل ويمسك بيدك ليدلك على درب الخالدين، وتمسك بيد شنكال العروس لتريها درب الجمال. كل ما فيك يدّل على الحبّ والوفاء، نجوم قلبك الزرقاء الباحثة أبدا عن صداقات جديدة وسماء سحرك الآخذ وبريق عينيك وترحيبك للكل في عالمك الكبير وعبورك للتفاصيل واجتيازك للصغائر إلى عالم ملؤه الغناء والعشق والجمال.
وأنا اجتاز شارعا رئيسيا في (أوسنابروك) الألمانية بصعوبة نتيجة وجود إصلاحات وصيانة فيها أفكر بصديقي المهندس (قاسم) الطيب، الأسمر، الضاحك دوما، رحل وهو يمتطي ألف سؤال وسؤال ومشاريع كان يحلم بتنفيذها لبلدية (كرعزير) و (سيباى) ولكنها لم تتم وبقيت رؤوس نقاط في مذكراته وذاكرته.
سلاما لروحك صديقي الخالد أبدا في الذاكرة.
الرحيل المفاجئ هو أرق دائم
والهدف هو الوصول إلى بيادر الحقيقة
اعتمادا على رائحة الله
واستشارة الملائكة
ومرافقة ذكريات الأصدقاء.
muradallo@yahoo.com
*******