جذور بعض الكلمات القديمة
الدكتور خليل جندي
(البحث ينشر في عدة حلقات)
– الحلقة الأولى –
اللغة هي كأساس تاريخي لظهور القيم الروحية والثقافية بإعتبارها حاملة رغبات وأفكار الإنسان إلى الآخر، وتحويل عالم الذهن إلى الحوار مع المجتمع. وعالم الذهن بالنسبة للإنسان القديم كان يعتبر إمتداداً للعالم الموضوعي الخارجي ذاته، وأن “تنظيم إستعمال اللغة كان مسؤولية إنسانية كبرى إشترك فيه أكثر من شعب من الشعوب القديمة، فقدم كل واحد منها ما يتفق مع ذاتيته ونوازعه الخاصة” (يوسف الحوراني، البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم، بيروت 1978، ص 111. مقتبس من كتاب: د. جمال رشيد أحمد، دراسات كردية في بلاد سوبارتو، بغداد 1984، ص1). وكان الإنسان القديم يؤمن إيماناً تاماً بأن الأحلام تضعه في علاقة مباشرة مع القوى غير المرئية وما يحلم به هو حقيقي وحوادث تحدث في الواقع، وأعتبر تسمية الشئ عملية خلق له.
بالتالي أن الكلمة، أو حرية الكلمة هي حجز الزاوية في أي بناء فكري وحضاري. ويؤكد العلماء بأن هنالك تداخل علم اللغة مع علم الأجناس، فعند بدايات ظهور الكتابة، حاول الانسان القديم نقل الصور الذهنية للأشياء إلى رسومات ورموز أولاً ومع مرور الزمن وتطور الفكر إلى صور كلمات وبالتالي ظهور ما أطلق عليه العلماء (الخط المسماري) لأول مرة عند السومريين، والخط الهيروغلوفي عند المصريين القدماء واوغاريت في بلاد الشام.
عليه فإن وجود أسماء أشخاص أو آلهة، أو مدن وقرى، أو جبال وقبائل..الخ. من شعوب قديمة ظهرت على مسرح التاريخ وأسست ممالك وإمبراطوريات في وادي الرافدين وآسيا الصغرى والهلال الخصيب ومصر القديمة؛ كالسومريين، الأكديين، العيلاميين، السوبارتيين، الحوريين-الميتانيين، الآشوريين والكلدانيين، الخالديين، الحثيين، الآراميين..الخ. لدى مجموعة بشرية وأثنية في الوقت الحاضر، له دلالة بوجود علاقة من نوع ما بين الطرفين، سواء علاقة عرقية أو روحية أو ثقافية أو الجيرة والاحتكاك أو الوقوع تحت تأثير الاحتلال وإلى غير ذلك من الأسباب.
اللغة، أياً كانت، تعتبر خزاناً يجتمع فيه ثقافة جماعة معينة خلال مراحل عديدة تمتد لآلف السنين من عمرها التاريخي والحضاري، وهي (اللغة) تعبير عن معاناة إنسانية ذهنية ترتبط بمرحلة تطور ذهن وكذلك ترجمة للمشاعر الفردية تجاه العالم المحيط به، وبالتالي فاللغة كانت وما زالت الأداة الحقيقة القادرة على تحديد رغبات الانسان ونقل أفكاره للآخرين.على سبيل المثال لا الحصر، ومن خلال الحيرة بين “الحي الذي مات وإندثر وصورته الذهنية” الباقية في خيال الأحياء، أدرك المصري القديم الفرق بين “الجسد والروح”، فبدأ الدين، وأشرق شمس الضمير، وميّز المصري القديم بين “مادة الجسد” وصورة الجسد “كا Ga” والروح المفارقة “با Ba” وأثر هذا التقسيم المصري في المنطقة كلها عقائدياً ولغوياً، فظهرت “الخا/أو الأخت” تحريفاً عن “كا” المصرية (تبادل السقف حلقيات). وأثرت “با” المصرية في (أب/آب) العربية السامية، بل في كل ما يتصل بالوالد في اللغات كافة. (د. لويس عوض، مقدمة في فقه اللغة العربية، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2005، ص16.)
فمن (كا Ga) مادة وصورة الجسد اشتقت (كا ga-كيان giyan أو كاده gadeh) بمعنى الروح. وكلمة (آمين) التي تأتي بمعنى “استجيب” في لغات الأرض كافة عند تلاوة الأدعية والصلوات، هو بالأصل ترديد لـ (آمين) أو (آمون) الهيروغليفية والهيراطيقية ثم القبطية. (نفس المصدر السابق، ص18)
وهذا ما أناقشته باختصار في هذا البحث، كيف يحتفظ المجتمع الايزيدي بالعديد من هذه الأسماء والعبادات والعقائد. مع التركيز على جذور وإمتدادات بعض الأسماء والكلمات القادمة حسب المعطيات من رحم ثقافة هندو-أوروبية أو هندو-إيرانية، أثرت وتأثرت عبر التاريخ بثقافة الحضارة السومرية والاكدية والعيلامية قديماً، وربما وقعت تحت طغيان ثقافة حضارات أخرى كالفرعونية والأوغاريتية. فيما يلي بعضاً من هذه الكلمات:
* دا، داي، دايك، دايه/ الأم، و خوشك، خوينك، خوه= الأخت، وكذلك (كيان/الروح Giyan) و (كاوده/الجسد Gawde) هم إمتداد لكلمة (كا Ga) صورة الجسد في اللغة المصرية القديمة.
* باب، بابير/الأب والجد: هما إمتداد لجذر كلمة (با Ba) مادة الجسد/ أي الروح في اللغة المصرية القديمة. كما نجد هذا الجذر في كلمة (أب و آب) المستخدمتين في اللغة العربية، و (تاباخ-آب) المستخدمة في اللغة الكورمانجية الكردية.
* آمين: الكلمة الدينية التي تتم ترديدها في الأدعية عند العديد من الأديان، هو إمتداد لكلمة (آمون) الهيروغليفية، أو (أخناتون) إله الشمس. ربّ سائل: وما علاقة لغة وثقافة مصر القديمة بنا؟ هذا ما سيقودنا إلى دراسة الهجرات البشرية، كان من ضمنها هجرة قوم إبراهيم الخليل وغيره من الأقوام، الذين دخلوا مصر القديمة من ناحية الشمال وحكموها أكثر من خمسمائة عام. إضافة إلى العلاقات، ومنها المصاهرة، بين حكام مملكة ميتاني الحورية شمال سوريا الحالية وبين فراعنة مصر آنذاك.
* مجيـــــــــــور/ من موبد Mobed ، موغ Mog ، ماغ Mag؛ وتأتي بمعنى (المجوسي) الذي حملته الطائفة الكهنوتية الميدية كانت حاملة لواء الزرادشتية، وظهر منها كتبة آفيستا الذين برعوا في الكتابة والعلوم، بات منتشراً فيما بعد في اللغات الهندو-أوروبية تحت مصطلح (Magic) الذي يعني السحر. عرف المجتمع الكردي بعد الاسلام مرتبة دينية مماثلة لتلك المرتبة التي احتلتها تلك الطائفة ويطلق على صاحبها اسم (ملا Melle-Mella) كذلك عرفت السريانية لقب (مار Mar) بمعنى القديس(ص27). كما أن مجيـــــــــــور Migewir /ماج أو ماغ Mag: اسم قبيلة ميدية و (طبقة دينية) في نفس الوقت، كما يقول الكاتب (كارلتون كون) في كتابه (القافلة)، وطقوس الديانة الميدية كلها كانت في يديها، وهي من أعرق القبائل وأعلاها مكانة في المجتمع الميدي. ومن الجائز أن يكون الكرمانج أو (الكورمانج) هم بقايا هذه القبيلة الميدية المتدينة والتي كانت تسكن في الموطن الميدي حول بحيرة أورميه في كردستان إيران، ثم توسعوا في زحفهم بعد ذلك نحو الغرب. (خالص مسور، أصل الأكراد، 20/4/2006).
ما زالت كلمة (مجيور Mijewir) باقية بقوة عند الايزيدية، و ربما (Magwar) تأتي بمعنى راعي المكان، كاهن المكان أو المعبد. كما أن وظيفة (مجيور) الدينية ما زالت فاعلة داخل المجتمع الايزيدي، ولا تخلوا قرية أو قصبة من معبد ومزار ايزيدي يقوم الـ (مجيور) بخدمته في جميع المناسبات والطقوس الدينية، إضافة إلى مراسيم الدفن التي تقام عادة في مقابر تابعة للمزار. كما تقام مهرجانات سنويةً في فصل الربيع يطلق عليه (طواف) بإسم معبد القرية أو المنطقة يشرف عليها الـ(مجيور) عادة.
ســــــــــما :Sama أصلها من كلمة (ساما فيداSama Vida) السنسكريتية، التي تعني أنغام المعرفة، وليس لديها علاقة بـ (السماع) العربية. و (ساما فيدا) عند الديانة الهندوسية كانت تتضمن أغاني ومقطوعات شعرية “مانترا” يتم تجويدها، بحيث أن المغنين (عند الايزيدية القوالون) لا ينطقون بالكلمة دفعة واحدة بل يقسّمونها إلى عدّة مقاطع. وقد رتّبت (ساما فيدا) ليتم ترتيلها بتسلسل محدد في أثناء إقامة الصلوات وتلاوة الأدعية الخاصة بطقوس تقديم القرابين للآلهة. وجميع مقطوعاته مخصصة لأداء المراسيم الدينية، حيث نجد فيه أغاني كثيرة، تؤدي بنغمات مختلفة، كذلك يوجد فيه إشارات إلى أهمية الرقص. (الدكتور منذر الحايك، فيدا/نصوص هندوسية مقدسة، دراسة مقارنة، ترجمة عن الانكليزية: حكمت أبكر، صفحات للدراسة والنشر/دمشق 2018، ص23). وهنالك رأي يقول بأن كلمة (سه ما) هي في الأصل من كلمة (سوما Suma-Soma) أو(سومSum) السنسكريتية والتي تعني (العشب المقدس) وكانت ترد في جميع الطقوس والممارسات الدينية وخاصة في حلقات وتجمعات الدراويش المتصوفين. (د. علي تتر نيرويي، الميثرائية/تاريخ ومعتقدات، ترجمة عن اللغة الكردية: بير خدر سليمان، منشورات مركز لالش الثقافي والاجتماعي، سلسلة رقم 7، مطبعة خاني/دهوك 2008، ص 26)
الرأيان صحيحان ينطبقان على الطقوس التي تمارسها رجالات الدين الايزيديين وخاصة (القوالون) أثناء أحياء المراسيم الدينية في معبد لالش أو غيرها من قرى وقصبات الايزيدية وذلك من خلال ترتيل النصوص الدينية بميلوديا خاصة لكل منها مصحوباً بالعزف على آلة (الدف والشباب)، مع حركة دوران سبعة من رجال الدين لثلاث مرات حول سراج متقد بفتائل زيت الزيتون في صحن معبد لالش الرئيسي.