بين مقابر سنجار ومآساة الخيم.. سنجاريون يبحثون عن وطن
هادي سعدو ومحمود البرغشي
يجلس “حمو علي” وهو مزارع ايزيدي في العقد الخامس من عمره، داخل خيمته الصغيرة في مخيم شاريا للنازحين في اطراف محافظة دهوك، ويتابع عبر موبايله صورا التقطت حديثا لجبل سنجار وحقوله الزراعية، انتشرت بشكل واسع على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، قبل ان تلتمع عيناه بالدموع وهو يقول :”هذه الصورة لمنطقة القحطانية قرب حقلي“.
يتنهد علي، وهو يطالع زوجته التي كانت تتابع حالة طفلهما المصاب باسهال حاد والذي يرقد منذ ايام داخل الخيمة التي تنقطع عنها الكهرباء لساعات وفي ظل ارتفاع مفاجىء لدرجات الحرارة، ويعود لمتابعة الصور على موبايله قبل ان يقول بغضب “لعنة الله على داعش، دمروا حياتنا ومستقبلنا“.
“علي” الذي كان يملك منزلا حديثا وحقلا زراعيا وبعض الدواجن التي كانت تؤمن له حياة جيدة في ناحية القحطانية غرب سنجار، قبل ان يغزوها تنظيم داعش في آب 2014، ويقلب حياته الى معاناة وحرمان منذ ذلك الوقت، يعيش في حيرة من أمره فهو بين نار العودة الى منطقته المدمرة والتي تفتقر الى ابسط الخدمات وبين البقاء في المخيم والاعتماد على المساعدات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني في ظل عدم حصوله على عمل يناسب وضعه.
يقول علي “نحن في حيرة من أمرنا، ويبدو ان كِلا خياري العودة والبقاء سيّئَين، حيث لا نستطيع الذهاب الى سنجار الآن لرؤية ما زرعناه فالحظر المفروض بسبب جائحة كورونا يعرقل حصدنا للمحصول، وسبق وان قطعت كل الطرق بين سنجار وكردستان وتأثرنا في ذلك الوقت ايضا“.
في الثالث من آب المقبل ستحل الذكرى السادسة لنزوح أهالي سنجار عن مدينتهم الواقعة 150كم غرب محافظة نينوى اثر سيطرة تنظيم “داعش” عليها وتعرضهم لواحدة من ابشع جرائم الابادة على يد مقاتلي التنظيم. وعلى أثر الهجوم أجبر أكثر من 400 ألف من اهالي منطقة سنجار على الفرار من ديارهم، فيما قتل أكثر من الفي رجل واعتقل نحو خمسة آلاف طفل وامرأة وفتاة وحولهم الى سبايا.
كورونا زادت المحنة
وقد زاد انتشار فيروس كورونا من محنة النازحين في المخيمات مع انقطاع الطرق وتوقف الحركة داخل المدن وتعطل معظم قطاعات العمل، فتجد معظم النازحين يتزاحمون في خيم متهالكة بفعل أشعة الشمس وارتفاع درجات الحرارة الى ما فوق الخمسين في الصيف، وبفعل الأمطار في الشتاء مع هبوط درجات الحرارة الى ما دون الصفر.
والنازحون معرضون للاصابة اكثر من الآخرين، بحكم الزحام في المخيمات والمرافق العديدة التي يتشاركون بها مثل دورات المياه والمغاسل المشتركة، وهذا ما اكدته الامم المتحدة منذ بداية انتشار الفيروس.
ذلك الواقع أعاد بقوة طرح قضية العودة الى سنجار المدينة المتهالكة والتي تعاني من مخلفات الحرب التي لم ترفع الى اليوم ولم تصلها جهود الاعمار، فقراها ماتزال مدمرة وما بقي من بيوت لم يطلها التفجير والحرق ماتزال خالية من أهلها في ظل غياب الخدمات، وعلى نحو خاص الجهة الجنوبية من جبل سنجار.
بعد ست سنوات في هذا البلدة المنسية كما يقول أهلها، والتي تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة الاف كم مربع، يبدو ان جهود اعادة الحياة ماتزال غائبة تماما عن برامج الحكومة الاتحادية، فلا مشاريع حقيقية لاعادة اعمار ما دمره تنظيم داعش، والمقابر الجماعية منتشرة في كل مكان وتذكر اهلها بأنها اضحت ارضا للموتى فقط، حسب اسماعيل عبو.
ويبلغ عدد المقابر الجماعية المكتشفة في سنجار إلى 81 مقبرة إضافة إلى عشرات المقابر الفردية حسب المنظمة الايزيدية للتوثيق والتي احدثت بياناتها في شباط الماضي.
ومع كل أزمة تظهر في المنطقة يعود موضوع “العودة الى سنجار” ليطرح بقوة في جلسات سكان المخيمات وفي مناقشات النشطاء في المدينة، وهو ما يحصل اليوم بعد بروز جائحة كورونا.
العودة مجددا
يقول “حمو علي” بعد دقائق من الشرود مع الصور التي نشرتها مواقع تواصل اجتماعي لربيع سنجار: “في العام الماضي احترقت محاصيلنا من الحنطة والشعير وبفعل فاعل، ونخشى ان تتكرر هذه الاعمال… هناك من يعادينا في سنجار وله القدرة على التحرك وهو ما يمنعنا من اعادة عوائلنا الى المنطقة، كما ان الخدمات معدومة خاصة في القحطانية“.
يقول “حسين رشو” (60 عاما) من سكنة قرية صولاغ الجبلية، والذي عاد الى قريته قبل سنتين ويربي نحو 100 رأس من الماشية، بخصوص العودة: “نحن ولدنا هنا ونريد أن نموت هنا ايضا، لذلك بعد طرد داعش بفترة قررت ان أعود الى منزلنا الذي بناه جدي“.
رشو يسرد قصته مع التهجير والعودة: “سبق وان تم تهجيرنا من قبل نظام حزب البعث اواخر الثمانينيات، ولكننا عدنا مرة اخرى.. وهربنا حين سيطر داعش على المنطقة وعدنا مجددا.. نحن نشعر ان الحياة هنا لها طعم آخر“.
يؤكد رشو ان عائلته أيدته في قرار العودة “أبنائي الخمسة وزوجتي يروون ايضا ان العيش هنا افضل من اي مكان آخر، رغم المخاطر التي تحيطنا بما فيه احتمال هجمات الارهابيين بقصد سرقة المواشي“.
يضيف رشو بان الحكومة “لا تقدم اي مساعدات للعائدين بأستثناء مساعدات غذائية وهذا غير كاف للناس لكي تبني منازلها المهدمة، وهي غير جادة بعودة الاهالي فقلة الخدمات وكذلك الصراعات السياسية القائمة بين مختلف الاطراف في هذه المنطقة الحدودية تحتاج الى تعامل خاص في هذه الفترة الصعبة التي تمر بها المنطقة“.
التوافق والتنسق الغائبين
تتقطاع مواقف الأهالي كما النشطاء والمسؤولين بشأن العودة وفرص تحقيقها، لكن هناك ما يشبه الاجماع بشأن الحاجات والمتطلبات التي يجب ان يتم توفيرها قبل العودة.
“السيد سعد الأعرجي” وهو ممثل المرجعية العليا في سنجار تحدث عن الموضوع قائلا “حسب اطلاعنا على الوضع العام ان عودة اهالي سنجار تحتاج إلى توافق وتنسيق بين حكومتي المركز والإقليم، ودون ذلك فان عودة الأهالي أمر غير ممكن“.
ويتابع الاعرجي كلامه بالقول “توجد بين عشائر سنجار مشاكل ايضا تحتاج الى حل جذري فيجب على العشائر ان تقدم قائمة بأسماء أبنائها ممن التحقوا بداعش وارتكبوا جرائم بحق اهالي المنطقة، من أجل القصاص منهم وفقا للقانون“.
ويؤكد بأن هذه النقاط “ضرورية لتهيئة أسباب وحلول العودة وفقا لبرنامج منظم وكذلك التأكيد على معرفة مصير المختطفين من قبل داعش وتعويض أسر الشهداء“.
عدم الجدية
يعلق “سيدو الأحمدي” وهو ناشط مدني ايزيدي ومدير اعدادية سنوني المختلطة، على الاشكالات الأساسية التي تحول دون عودة الاهالي الى مناطقهم، قائلا ان حكومتي بغداد واربيل بالاضافة الى الحكومة المحلية في نينوى غير جادين في قضية ارجاع اهالي سنجار المنكوبة، فهم يفتقرون لأي برنامج تشجيعي يخص عودة الاهالي.
وأشار الأحمدي الى “ازدواحية الادارات المحلية في سنجار، ففيها قائممقامان احدهما يتبع حكومة الاقليم والآخر الحكومة الاتحادية، بالاضافة الى مديرَي ناحية في كل ناحية تابعة للقضاء وهذا ما يجعل الأمر اصعب ومحل سخرية لدى الجهات الرسمية والشعبية“.
واختتم الاحمدي قوله بالدعوة الى فتح المراكز الحيوية في سنجار وتوفير فرص العمل وتعويض المتضررين كي يتسنى للاهالي العودة مجددا الى مناطق سكناهم.
يشير ناصر اسماعيل وهو مدون فيسبوكي ينشر بشكل مستمر عن واقع سنجار، الى غياب سلطة الدولة في القضاء.ويقول ان “80 بالمئة أو أكثر من قضاء سنجار مُدمر، كما أنه منطقة متنازع عليها، وهذا أحد الأسباب التي تمنع عودة النازحين إليها، فضلا عن تعدد الإدارات المحلية وغياب سلطة الدولة هناك“.
يركز اسماعيل في حديثه عن الصراع السياسي الموجود: “كل الاحزاب والفصائل المسلحة تطمع الى بجزء من أراضي شنكال دون أهلها فهم يقاتلون من اجل هذه المنطقة الحدودية وليست لتقديم الخدمات والامن. الصراع فيها تارة صراع حزبي كردي- كردي وتارة اخرى كردي- عربي، وكل هذا يسبب تأخير عودة الناس ونقص الخدمات“.
تعمد ابقاء الوضع الحالي
يقول قائممقام قضاء سنجار محما خليل الذي يسكن في محافظة دهوك، متحدثا عن معوقات عودة الاهالي ان “إبقاء الحال في شنكال متعمد ويندرج من ضمن اجندات تريد ان تبقى هذه المناطق فارغة من اهلها، معللا سبب عدم عودة الاهالي لمناطق سنجار لحد الان لوجود عدة قوات غير شرعية وتتصارع من اجل مصالحها“.
ويوضح خليل ان المجتمع الدولي برمته يتحمل مسؤولية عدم عودة اهالي القضاء فهو لم يمد يد العون لاعادة بناء المدينة كما انه لم يحاول حل الصراع الموجود فيها مما يدفع الاهالي للبقاء في المخيمات“.
ويتابع “تشي هذه الصراعات في المنطقة بوجود مستفيدين، وهم يفرضون اجنداتهم دون رقيب وحسيب“.
وقضاء سنجار، كان يضم نحو 650 الف نسمة قبل احتلاله من قبل داعش، ويعيش فيه المسلمون والمسيحيون الى جانب الايزيدية الذين يشكلون اغلبية فيه. وتسيطر عليه في الوقت الحالي عدة فصائل مسلحة منها قوات حماية سنجار “YPŞ” والحشد الشعبي وقوة حماية ايزيدخان بالاضافة الى الشرطة المحلية والجيش العراقي، وتنتشر في شمال القضاء قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني. وتم تحرير المنطقة قبل ثلاث سنوات لكن عدد العائدين لا يتجاوز 25%.
بينما كان “حمو علي” يطرح فكرة العودة الى منطقته والعمل في حقله الزراعي، قال أكبر ابنائه “خديدا” الذي كان متمددا على سريره في آخر الخيمة، حيث اجريت له عمليتي تغيير مفصل عظمي الفخذ في ساقيه: “الى اين نعود؟ اذا كان بيتنا مدمرا والحكومة لا تدعمنا، والخطر قائما اثر عودة نشاط داعش“.
تحوم الشكوك حول نجاح عمليتي خديدا التي اجريت في مستشفى حكومي، يقول إن البلاتين الموضوع في ساقيه ليست من النوعية الجيدة وهذا ما اكده الطبيب، ولكن لأنه لم يكن يمتلك مالا لاجرائها في مستشفى اهلي اضطر للقبول بذلك.
خديدا يرفض تماما فكرة العودة ويبحث عن منظمة انسانية كي تساعده للذهاب الى اوروبا باعتباره الان من ذوي الاحتياجات الخاصة وبحاجة الى رعاية لا يجدها هنا، حسب قوله. لكن والده يقول “بهذه الأحلام لن نحقق حياة افضل“.
هذا العمل من نتاجات مشروع( التربية الإعلامية ) الذي تم تنفيذه بواسطة (MICT) الأكاديمية الألمانية للإعلام بالتعاون مع (IOM ) منظمة الهجرة الدولية سنة 2020 .