إيزيديات… يخلقن من رحم المأساة فرص الحياة
ميسر الأداني
تقف سراب أمام باب منزلها الطيني في قرية ” تل قصب” أحدى قرى الايزيدية الكبيرة في جنوب جبل سنجار تنتظر ان تشرق الشمس في وجهها، لتشارك زميلاتها فرحة العيد وهي تطرق ابواب اقربائها، لأخذ حصتها من الحلويات، وتقول ” عيد مبارك، نكون معا في كل الاعياد “.
لم تتخيل سراب ابداّ ان تتأخر الشمس عن قريتها وتصبح تحت رحمة الهلع والخوف وتمضي حياتها نحو المجهول، فُوجئتُ بسيارات أرهابيي تنظيم داعش تدخل قريتها بالمئات وتعلوا اصوات، الله اكبر، اقتلوهم، انهم كفرة ، فيقبضون عليها مع اثنين من اخواتها، لتتحول حياتها الى جحيم في قبضة التنظيم .
سراب نايف ( 18 عاما ) وقعت في قبضة تنظيم داعش وهي في سن الحادية عشر من عمرها وفي مرحلة الابتدائية لدراستها، ولا تجيد سوى لغتها الام ” الكوردية “.
كانت لدى سراب احلام كثيرة، منها ان تكمل دراستها، وتصبح معلمة في مادة الرسم في قريتها التي تفتقر الى وجود المعلمات، كانت تحلم بانها سترسم شنكال وجبلها، مزارتها، ينابيع وسهول الجبل، هكذا تقول سراب .
جحيم داعش
هاجم تنظيم داعش قضاء سنجار(125 كم غرب الموصل) في الثالث من اغسطس 2014 وقاموا باختطاف اكثر من ( 6500 ) ايزيدي من كلا الجنسين حسب احصائيات مكتب انقاذ المختطفن الإيزيديين في محافظة دهوك وكانت سراب من بينهم .
تقول سراب ” القوا القبض علينا وكنت اصرخ، انادي بصوت عالي يا امي تعالي انقذيني، والدموع تتساقط من عيوني بغزارة، أماه سيقلتونني هؤلاء “.
تصف سراب اشكال مقاتلي داعش وقد تغيرت ملامحها عندما كانت تروي الاحداث الماساوية التي عاشتها ” كانوا بوجوه قبيحة ذو لحية كثيفة، يضربون النساء والاطفال، يقتلون الرجال، اقتادونا الى قضاء تلعفر بالشاحنات الكبيرة ، كان الوداع قاسيا فالعوائل تبكي على بعضها ، وقد ودعت تل قصب بعيون دامعين”.
وتضيف ” فصلوا العوائل من بعضها بعد اشهر من العذاب والجوع ، ومن الضرب والاهانة والاستفزاز بالمختطفين، وأخذني امير لداعش اكبر مني بسنوات كثيرة ،اعتقد كان عمره بحدود 45 عاما “.
رحلة مرعبة …
تؤكد سراب “عالم يختلف كثيرا عن عالم الطفولة التي كانت اعيشها في تل قصب (20 كم جنوب قضاء سنجار ) ، هذه الرحلة اتعبتني وكلفت عمري نحو خمس سنوات من السبي والبيع والشراء في اسواق النخاسة، فاحداث وليالي مرعبة قضيتها في جحيم داعش ” .
وتتابع ” في ذاكرتي مدن واماكن لا تنسى ” عندما اختطفت، لم ازور قد مكانا في العراق، سوا تل قصب التي عشت فيها طفولتي وفي حضن والداتي، كنت لا اعلم اسماء المدن خلال اشهر وسنوات، عرفت مدن وقرى ومجمعات كثيرة، وفي كل مكان منه ذكرى السبي في ذاكرتي ,وصرخاتي في كل زوايا المنازل التي تنقلت بينها، ودموعي في كل بقعة، تغير كل شيء، ملابسي ، النقاب والحجاب، تجاعيد وجهي ، كل شيء كان مختلفا تماما في عالمي ، رحلة سوداء حقا حفرت في ذاكرتي ” .
وتضيف : ” وصلت الى سوريا في بناية كبيرة في الرقة ، فيها العشرات من النساء الايزيديات المختطفات ، وخلال دقائق قام مقاتلي التنظيم بتوزيعنا على بعضهم البعض ،عشت وقتها قساوة و عذاب لا يوصف ” .
رغم ما عانته الفتيات و النساء الايزيديات الناجيات اللاتي تحررن من قبضة داعش الا ان فهناك العديد من قصص النجاح التي تستحق ان يتم الاهتمام بها، فالعديد منهن رجعن الى الدراسة وحققن درجات عليا ودرسن في جامعات ومعاهد وكليات مرموقة ،فبعضهن استطاعت ان تكون بمثابة نموذج نجاح وتزوجت و أنجبت الاطفال وكونت أسرة – كما يقول الباحث و الناشط في مجال دعم الناجيات الايزيديات خضر دوملي.
ويضيف ” هناك من تعمل ناشطة ومتطوعة لخدمة مجتمعها وتعمل في المخيمات لأرشاد النساء للتوعية الصحية و العناية و التوعية من الاصابة بمرض فايروس كورونا فالكثير منهن استطاعت ان تصبح ناشطة تشارك في المحافل الدولية للدفاع عن حقوق زميلاتها “.
ويوضح خضر ” أنهن يملكن ارادة قوية ومهارات وفدرة على التأقلم لذلك تراهن في العديد من المحافل و يبحثن عن فرص العمل وشارك العديد منهن في معارض للرسم و الفن و الاعمال اليدوية و نالوا الجوائز ”
ويتابع ” هذا الامر يعود الى قدرة النساء الايزيدية على التأقلم مع الواقع الجديد لتقديم رسالة للعالم عن الظلم الذي لحق بهن وعن أهمية وقف نزيف العنف و الابادات على المجتمع الايزيدي ، وهو تأكيد على قوة المرأة الايزيدية وصحة المسار التي تمضي عليه، لأن تنظيم داعش الارهابي أراد تدمير ارادة المجتمع الايزيدي بتدمير المرأة الايزيدية لكنه فشل”.
ويبين دوملي :” لم ياخذ موضوع قصص النجاح الكثير من الاهتمام كما لم يأخذ الاهتمام الذي أبداه المجتمع وذوي الناجيات بهن الكثير من الاهتمام والدراسة بسبب طبيعة الثقافة السائدة في المجتمعات المحيطة بالايزيدية في الحديث فقط عن قضايا العنف و الاعتداءات الجنسية وشجاعة المرأة الايزيدية في تجاوزها – ذلك الامر الذي لم يحصل مع الناجيات من المجتمعات الاخرى “.
شمس النجاة
” ظلام دامس في وجه النساء الايزيديات المختطفات وفي داخلهن كان يتألمن بلا مقياس او حدود، حلمهن في الحياة ان يتم تحررهن وتشرق شمس الحياة الكريمة عليهن من جديد، دعواتهن سرا ان تفك أسرهن ويتحررن وكسر قيودهن، تخلصن من بيعهن من ماساة، من عمليات الاغتصاب التي تعرضوا لها، من عرضهن في اسواق النخاسة وتعذيبهن، من قصف طائرات التحالف “تقول ذلك سراب .
وتكمل حديثها ” في اخر معاقل داعش كانت طائرات التحالف تقصف مقرات التنظيم باستمرار وفي داخلها العشرات من النساء الايزيديات مع مقاتلي التنظيم، في منطقة باغوز بسوريا وبعد فرض الحصار، أخذوا النساء معهم , واتجهوا الى اماكن عدة ومنها تركيا، كنت في وقته لدى امير لداعش المكنى بابو مصعب الذي كان مشرفا على اسلحة التنظيم، فقد القت القوات السورية الديمقراطية االقبض علينا في الطريق، وعندما قلت لهم انا فتاة ايزيدية، تم تسليمي الى الايزيديين في سوريا وزج الداعشي ابو مصعب الى السجن ولا اعرف ماذا حل به لاحقا، وفي تلك اللحظة كنت اشعر باني ولدت من جديد “.
عودة الى كوردستان العراق
في بداية شهر تموز 2019 اصبحت حرة، وبقيت لمدة شهر لدى الايزيديين في سوريا، اتكلم معاهم باللغة العربية ، وبعد ذلك استقبلني اهلي بالورد في الحدود العراقية السورية وعانقنا بعضنا كثيرا كثيرا ، وبكينا معا لحظات فقدتها سنوات من عمري، حتى من كان حولنا بكى معنا من الموقف الذي نحن فيه، موقف محزن لا يتخيله العقل، وفي النهاية ابتسمنا معا، ابتسامة بطعم الشوق واللهف، العشرات من الايزيديين استقبلوني باحترام و تقدير كبيرين سواء كان في معبر بيشابور في قضاء زاخو بدهوك او على الشارع العام، كان موقف ولحظات جديدة حقا، أتجهنا نحو محافظة دهوك، اعبر القرى والمدن في اقليم كوردستان لاول مرة في حياتي وانظر من نافذة السيارة الى العالم بشكل اخر في تلك اللحظات، كان مختلفا تماما عن عالم داعش، عن عالم باغوز القتل والاغتصاب والسبي . حيث وصلت الى مخيم مكتظ بالناس يدعى مخيم مام رشان في قضاء شيخان ” 60 كيلو شرق دهوك ” .
المخيم ..
وبحسب احصائيات هيئة الاغاثة والشؤون الانسانية في محافظة دهوك لعام 2014 الى 2019 بان عدد الايزيديين النازحين 90 % من العدد الكلي للنازحين في المحافظة الساكنين في مخيمات النازحين و44% من عدد النازحين خارج المخيمات والبالغ العدد الكلي للنازحين نحو (400) الف ايزيدي وموزعين على ما يقارب 14 مخيما، فضلا عن السكن في البيوت المهجورة والهياكل والخيم العشوائية،التي تفتقر لابسط مقومات العيش .
وتروي سراب ما تعانيه حتى وهي بين اهلها ” لازلت في صدمة وحزن دائم على الرغم من اني بين اهلي، ففي الليل الكوابيس لم تتركني ، لذلك راجعت المراكز المختصة بالتاهيل بمساعدة المنظمات المحلية والعالمية التي تعمل في المخيمات “.
وتوضح سراب سبب قوتها واندماجها في المجتمع “شاركت بعد تحسن حالتي الصحية والنفسية بالكثير من النشاطات في المخيم، رغم التحديات الا اني يجب ان اكون قوية ولا اتنازل ، انها مسالة الوقت، وساعود كما كنت في السابق بارادتي الفولاذية “.
يقول المدير السابق لمخيم مام رشان للنازحين والمدير الحالي لمخيم شيخان عامر عبو ( 43 عاما ) ” افرزت غزوة داعش لمدينة سنجار من تفكيك العوائل وفقدان الكثير منهم الرجال الذي كان اعتماد ومصدر الرزق عليهم من اجل توفير لقمة العيش مما اضطر النساء النازحات في المخيمات الدخول الى مجال الاعمال الصغيرة والاعتماد على الذات لتوفير مصدر ثابت للمعيشة ”
يضيف عبو ” تقوم ادارة المخيمات بالتنسيق مع المنظمات الدولية والمحلية للبحث عن توفير فرص عمل للنساء وحاولنا فتح مشاريع صغيرة لهن وادخالهن في دورات مهنية والحصول لهن على فرص للعملمن فتح محلات صغيرة ، كوافيرة وخياطة وتطريز وغيرها ”
وللناجيات قصص ..
مروة حسن ( 20 عاما ) تعمل في صالون( كوافيرة شنكال ) في مخيم قاديا بقضاء سميل , في دهوك ، والتي تقول “وقعت في قبضة داعش سنوات، وسبيت لاكثر من مرة وبعد تحريري في بداية 2017 ، عملت مع احدى زميلاتها في المخيم ، في الصالون وكان سبب العمل حتى انسى ما تعرضت له من انتهاكات ، وان أتأقلم مع المجتمع واتخلص من الهموم والكوابيس وافتح صفحة جديدة في حياتي ” .
اما هدية خلف (28 عاما) فتحت محل بمعيّة زوجي ( فلاح حسن 27 عاما) ، لبيع الملابس النسائية في سنجار بعد تحريرنا من قبضة داعش ، كان لنا هذا المحل قبل وقوعي في قبضة داعش “كما تبين هدية ” وفتحنا المحل من جديد ومارسنا حياتنا رغم كل التحديات التي تواجهنا , وقد عاشنا في المخيمات لمدة سنتان بعد تحريرنا ومنذ بداية عام 2019 عادنا الى سنجار “.
سراب الناشطة ..
تتحدث سراب عن عملها كناشطة في مجال حقوق الانسان بعد تحريرها من قبضة داعش ”
منذ حوالي سنة اشارك في المؤتمرات والنشاطات تخص الناجيات الايزيديات وتفعيل دورهن وانصافهن وايصال صوتهن الى مركز صنع القرار على الصعيد المحلي والدولي، وقمنا بتقديم مشاريع ومقترحات كثيرة للحكومة العراقية والكوردستانية بشان تشريع قانون خاص للناجيات الايزيديات واعادتهن الى دراستهن بعد ان خسرن مقاعدهن الدراسية ، بسبب العمر وانا واحدة منهن ولا سيما البحث عن وظائف واعمال للناجيات من اجل اعادتهن الى الحياة ومساعدتهن في التاقلم ”
تضيف سراب ” كان للاب الروحي للايزيديين الخالد (خرتو حاجي اسماعيل ) بابا شيخ الايزيديين دور بارزا وذلك باصدار بيان رسمي حول استقبال كل الناجين والناجيات الايزيديات ولهذا تشجع الناجيات بعد تحريرهم الدخول الى سوق العمل، الى المشاركات والنشاطات والمجتمع الايزيدي برمته ينظر الى الناجيات بعيون كبيرة وبقلب كبير ” .
ايجاد فرصة العمل
خلال مشاركات محلية في العراق واللقاء بالمسؤولين من دول مختلفة تطالب سراب كباقي زميلاتها بضمان حقوق الناجيات الايزيديات وتحرير بقية المختطفين من قبضة التنظيم، وتؤكد ” في بداية عام 2020 التقيت بمسؤول الماني كبير قد زار المخيمات، تحدثت له عن ما عانته المرأة الايزيدية من ظلم وانتهاكات خلال فترة الاختطاف، وتأثر بقصتي وشعر بالحزن، وطلبت منه ايضا النظر في قضية الناجيات ومساعدتهن قدر الامكان ” .
تضيف ” بعد ان طلب مني مساعدتي للوصول الى المانيا والعيش فيه ورفضي ذلك الطلب، شجعني على العمل في المخيم ، ففكرت في الموضوع ، كيف يمكنني ادارة العمل ، كان في سنجار النساء لا يعملن وكان عرضا مختلفا عما في السابق ”
بعد اشهر كما تقول سراب ” فتحت محلا لبيع الملابس النسائية وساعدني في العمل ناجية اخرى، ووجدت فيه تشجيع لا باس ودعم معنوي من المجتمع الذي انا منه، كنت اعتقد ان يكون صعبا ”
الى القمة
كان لسراب لغز من فتح هذا المحل .. وكذلك رسالة ، فهي تتحدث ” هدفي من فتح المحل هو رسالتي لتشجيع النساء الايزيديات على العمل ومساعدة الرجل الذي كان اعتماد مصدر الرزق عليه، ففي سنجار وبعد الاحداث تغيرت الكثير من الاشياء وخاصة بعض العادات المجتمعية وتم تجاوزها فضلا عن مساعدتنا في اعادة التاهيل والتاقلم سواء كان مع النازحين والمجتمع المضيف، ولا سيما خروجنا من هول الصدمة وتغير نفسيتنا ”
ففي كل صباح , تفتح سراب محل الملابس النسائية، وتبقى فيها عدة ساعات، ثم تذهب الى السوق لشراء البضاعة بين فترة واخرى وتعود الى المخيم .تختم قولها ” انا في القمة، لأني شعرت بارتياح نفسي وانا اساعد الضحايا . واحلم ان اكون في تل قصب ولافتح ملحي هناك مجددا ” .
هذا العمل من نتاجات مشروع ( التربية الإعلامية ) الذي تم تنفيذه بواسطة (MICT) الألمانية سنة 2021.